بين الكتاب وصاحبه
والكتاب قد يَفْضُلُ صاحبه ويتقدّم مؤَلِّفَه ويُرَجِّح قَلَمَه على لسانه بأمورٍ:
منها أنَّ الكتاب يُقْرَأ بكلّ مكانٍ، ويَظهر ما فيه على كلّ لسانٍ، ويوجد مع كلّ زمانٍ، على تفاوت ما بين الأعْصَار، وتباعد ما بين الأمْصار. وذلك أمرٌ يستحيل في واضع الكتاب والمُنازَعِ في المسألة والجواب؛ وقد يذهب الحكيم وتبقى كتبه، ويذهب العقل ويبقى أثَرَه؛ ولولا ما أوْدَعَتْ لنا الأوائل في كتبها، وخلَّدَت من عجيب حكمتها، ودوَّنَت من أنواع سِيَرِها، حتّى شاهدنا بها ما غاب عنّا، وفتحنا بها كلَّ مَستغْلَقٍ كان علينا، فجَمَعْنا إلى قليلنا كثيرهم وأدركنا ما لم نكن نُدركه إلّا بِهِم، لخسَّ حظُّنا من الحكمة، ولَضَعُف سببنا إلى المعرفة.
ولو لجأنا إلى قَدْر قُوتِنا، ومَبْلَغِ خواطرنا، ومنتهى تجاربنا، لِمَا تُدْرِكُه حَواسُّنا وتُشاهده نفوسنا، لقلَّت المعرفة، وسَقَطت الهمَّة، وارتفعت العزيمة، وعاد الرّأي عقيمًا والخاطر فاسدًا، ولَكَلَّ الحُدَّث وتبلَّد العقل.
عن الجاحظ
كتاب الحيوان صفحة 85 ج.10